فرنسا وأميركا.. تحالف جديد
من خلال توجيهه دعوة لفرانسوا أولاند لزيارة الولايات المتحدة، أراد باراك أوباما أن يكرِّم الرئيس الفرنسي اعترافاً بالدور الذي تلعبه فرنسا في أفريقيا مع تدخليْها في مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى، كما مثلت الدعوة أيضاً طريقةً للاعتذار عن الكيفية السيئة التي تخلى بها عنه في قضية الأسلحة الكيماوية السورية.
وعلى أي حال، فقد أظهر الرجلان قدراً كبيراً من التضامن والتفاهم والانسجام، وهو ما أثار قلق بعض قطاعات الرأي العام الفرنسي. فهل من الطبيعي أنه لم يعد ثمة أي خلاف بين باريس وواشنطن؟ وهل يمثل ذلك مؤشراً على اصطفاف فرنسي جديد؟ وألا يشير كون أولاند حل محل الرئيسة البرازيلية ديلما روسف، التي ألغت زيارة الدولة التي كانت من المقرر أن تقوم بها إلى الولايات المتحدة بعد انكشاف قضية تنصت وكالة الأمن القومي الأميركي، إلى شيء ما ذي دلالة سياسية ملفتة؟ إننا نتذكر أن الصحافة الأنجلوسكسونية أشارت إلى نزوع فرنسا إلى سياسة المحافظين الجدد، مشيرةً في هذا الصدد إلى التدخلات العسكرية الفرنسية في أفريقيا وإلى الموقف الصارم الذي اتخذته باريس بخصوص الملفين السوري والإيراني. فما مدى صحة ذلك؟
الواقع أن الحديث عن تحول فرنسي إلى سياسات المحافظين الجدد حديث فيه كثير من المبالغة، وذلك لأن التدخلين الفرنسيين في مالي وأفريقيا الوسطى تم القيام بهما بناء على طلب السلطات الوطنية، مع دعم إقليمي، فضلاً عن إشارة الضوء الأخضر من الأمم المتحدة، بما في ذلك موافقة روسيا والصين. وبالتالي، فإن الأمر مختلف تماماً عما جرى في العراق في 2003. فليس كل تدخل عسكري يعني نزوعاً إلى سياسات المحافظين الجدد.
وإذا كان صحيحاً أن فرنسا أبدت حزماً وصرامة بخصوص إيران، فإن الاتفاق أُبرم، وهو الآن اتفاق أقوى بفضل تلك الصرامة. غير أن الرغبة التي أظهرتها فرنسا في توجيه ضربة عسكرية لسوريا خارج أي قرار لمجلس الأمن الدولي كان يمكن أن تضعها في وضع يتنافى مع المبادئ التي تنتصر لها تقليدياً، وكان يمكن أيضاً أن يمس بوضعها كعضو دائم في مجلس الأمن. وبالتالي، فربما يتعين شكر لندن وواشنطن اللتين من خلال تخليهما عن فرنسا حالتا دون ارتكابها خطأ فادحاً.
ولكن، هل يمكن القول إن أولاند ضرب صفحاً عن الخط الديجولي- الميتراني (نسبة إلى الرئيسين الفرنسيين السابقين ديجول وميتران)؟ الواقع أنه خلافاً لما يذهب إليه البعض، فإن نهاية الحرب الباردة لا تعني نهاية جدوى هذه الدبلوماسية وأهميتها. ذلك أن الفكرة التي مفادها أن فرنسا لا يمكن اختزالها في وضعها كبلد غربي، وأن لديها دوراً محدداً لتلعبه مع بلدان الجنوب أو البلدان الصاعدة، وأن عليها أن تحافظ على خط مستقل وتشجع تعددية الأطراف والتعددية القطبية، لم تختف مع نهاية العالم ثنائي القطبية.
وفي المقابل، فإن ضرورة أخذ مسافة من الولايات المتحدة والتميز عنها باتت أقل قوة اليوم مما كانت عليه في عهد ديجول، وميتران، بل وحتى عهد شيراك. ذلك أن الولايات المتحدة في حالة انكفاء، وأوباما لا يسعى إلى الهيمنة على أوروبا والتحكم فيها مثل ما كان يفعل بعض سابقيه في البيت الأبيض. كما أن العهد الذي كانت فيه واشنطن لا تقبل برؤية رأس ترتفع على ما سواها بين الحلفاء الأطلسيين قد ولّى هو أيضاً؛ وبالتالي، فإنه لم يعد من الضروري الحرص على إبراز اختلافنا مع واشنطن، لأنها هي نفسها لم تعد تقبل بذلك. وفي الماضي، كان من الضروري القيام ببعض الفرقعات من حين لآخر حتى نحافظ على هامش مناورة خاص بنا يميز مواقفنا الخاصة، أما اليوم، فقد قلت الحاجة إلى ذلك بشكل كبير.
وعليه، فإن اتهام أولاند بالاصطفاف في ركب الولايات المتحدة والجنوح إلى سياسات المحافظين الجدد اتهام لا أساس له من الصحة، ويقوم على خلط بين فترات تاريخية مختلفة. وهذا الاتهام يغذيه سعي أولاند إلى الإجماع، والذي يذهب فيه أحياناً مذهباً بعيداً. وإذا كانت الولايات المتحدة قد أضحت أقل تضييقاً علينا بخصوص استقلاليتنا من السابق، فإنه من الممكن مع ذلك إثارة «نقطة نظام» ووضع النقاط على الحروف بين الحين والآخر. وعلى سبيل المثال، فإن ديجول وميتران ما كانا ليمنعا طائرة الرئيس البوليفي إيفو موراليس من التحليق في مجالنا الجوي بدعوى أن ثمة إمكانية أن يكون إدوارد سنودن على متنها. كما أن رد الفعل العام على قضية تنصت وكالة الأمن القومي الأميركي كان سيأخذ بعداً ويلقى رد فعل أكثر قوة تحت رئاستهما. ثم إننا من الممكن أن نتفهم عدم انسحابنا من الأجهزة العسكرية لمنظمة حلف شمال الأطلسي، ولكن هل ينبغي قبول برامج الدفاع المضاد للصواريخ التي تعيد إحياء سباق التسلح؟
الواقع أن ما يمكن أن يعطي الانطباع أكثر باصطفاف فرنسي في ركب الولايات المتحدة، هو صفة أخرى لأولاند: إنها براجماتيته. فهو يفضل صياغة رد الفعل بناء على كل حالة على حدة، وحتى الآن، يمكن القول إنه قد أفلح في ذلك عموماً. غير أن ما يبعث على الأسف هو أنه لم يتم بعد إعطاء رؤية عامة لدبلوماسيتنا ولوضعنا في العالم. وبالتالي، فإن المطلوب هو خطاب كبير مؤسِّس حول ما هي فرنسا في عالم متسارع لا ينفك يتغير.